كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال غير واحد مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمَّا كَانَتْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّقْصِ فَكَانَتْ يَسَارُ أحدهِمْ نَاقِصَةً فِي الْقُوَّةِ نَاقِصَةً فِي الْفِعْلِ بِحَيْثُ تَفْعَلُ بِمَيَاسِرِهَا كُلَّ مَا يُذَمُّ- كَمَا يُبَاشِرُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارَ- بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كِلْتَا يَمِينِ الرَّبِّ مُبَارَكَةٌ لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مَعَ أَنَّ الْيَمِينَ أَفَضْلُهُمَا كَمَا فِي حَدِيثِ آدَمَ قال: «اخْتَرْت يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ» فَإِنَّهُ لَا نَقْصٌ فِي صِفَاتِهِ وَلَا ذَمٌّ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا إمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ. وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ» فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْعَدْلُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَعَ أَنَّ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَالْفَضْلُ أَعْلَى مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ سبحانه كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَرَحْمَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نِقْمَتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَكُونُوا عَنْ يَدِهِ الْأُخْرَى. وَجَعَلَهُمْ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تَفْضِيلٌ لَهُمْ كَمَا فَضَّلَ فِي القرآن أَهْلَ الْيَمِينِ وَأَهْلَ الميمنة عَلَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ وَأَصْحَابِ المشأمة وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا عَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ جَاءَتْ بِأَنَّ أَهْلَ قَبْضَةِ الْيَمِينِ هُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ وَأَهْلَ الْقَبْضَةِ الْأُخْرَى هُمْ أَهْلُ الشَّقَاوَةِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الشَّرَّ لَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَائِهِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَلَمْ يُضِفْ إلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَأَضَافَهُ إلَى السَّبَبِ الْمَخْلُوقِ أَوْ بِحَذْفِ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ كَقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} و{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وَكَأَسْمَائِهِ الْمُقْتَرِنَةِ مِثْلَ الْمُعْطِي الْمَانِعِ الضَّارِّ النَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ الْخَافِضِ الرَّافِعِ وَكَقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وَكَقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وَكَقول الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقول فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: «وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك» وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ: أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَيْك وَلَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك أَوْ قِيلَ إنَّ الشَّرَّ إمَّا عَدَمٌ وَإِمَّا مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَمِ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ إلَى اللَّهِ فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سبحانه إنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْخَيْرُ وَأَسْمَاؤُهُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ خَيْرٌ حَسَنٌ جَمِيلٌ لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّرُّ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وَقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقال تعالى: {إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فَجَعَلَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْ مَعَانِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الَّتِي يُسَمِّي بِهَا نَفْسَهُ فَتَكُونُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَمَّا الْعِقَابُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْأَلِيمُ فَلَمْ يَقُلْ: وَإِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ وَلَا فِي أَسْمَائِهِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْمُ الْمُنْتَقِمِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُنْتَقِمُ فِي القرآن مُقَيَّدًا كَقوله: {إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} وَجَاءَ مَعْنَاهُ مُضَافًا إلَى اللَّهِ فِي قوله: {إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُمُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه حَكِيمٌ رَحِيمٌ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا بِحِكْمَتِهِ كَمَا قال فِي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَقال تعالى: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} وَقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فاعلين} وَقال فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَى قوله فِي سَائِرِ الْآيَاتِ: {بِالْحَقِّ} هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ كَمَا قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقول كُنْ فَيَكُونُ} وَقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}. وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ قوله: {هُوَ الْخَلَّاقُ} إشَارَةً إلَى أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيدُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بَلْ يَصْفَحُ عَنْهُمْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ لِأَجْلِ الْقَدَرِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ سبحانه قَدْ عَاقَبَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ وَلِرُسُلِهِ. وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِمُعَاقَبَتِهِمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ مَا يُنَافِي قول هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} تَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قوله: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} فَإِنَّ لَهُمْ مَوْعِدًا يُجْزَوْنَ فِيهِ كَمَا قال تعالى فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، {فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} وَقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} وَقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَلَمْ يَعْذُرْ اللَّهُ أحدا قَطُّ بِالْقَدَرِ وَلَوْ عَذَرَ بِهِ لَكَانَ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِذَلِكَ وَآدَمُ إنَّمَا حَجَّ مُوسَى لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْ الذُّرِّيَّةَ فَقال لَهُ: لماذا أَخَرَجْتنَا وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ وَمَا أَصَابَ الْعَبْدُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ فِيهَا لِلَّهِ وَيَعْلَمَ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ عَلَيْهِ كَمَا قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال عَلْقَمَةُ- وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ-: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ: فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَمِنْ الصَّبْرِ الصَّبْرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَهَذَا هُوَ صَاحِبُ الْعَاقِبَةِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا قال يُوسُفُ عَلَيْهِ السلام {إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وَقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وَقال: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}. ولابد لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيُبْتَلَى بِمَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى الصَّبْرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قِيلَ لِأَفْضَلِ الْخَلْقِ: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى مُنَاظَرَةِ آدَمَ وَمُوسَى؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ حَمَلُوهَا عَلَى مُحَامِلَ مُخَالَفَةٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَذَّبَ بِالْحَدِيثِ لِعَدَمِ فَهْمِهِ لَهُ وَالْحَدِيثُ حَقٌّ يُوجِبُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا جَرَتْ عَلَيْهِ مُصِيبَةٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِثْلَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِ أَبِيهِ لاسيما إذَا كَانَ أَبُوهُ قَدْ تَابَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَبِعَةٌ كَمَا جَرَى لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
وَقال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وَكَانَ آدَمَ وَمُوسَى أَعْلَمَ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ أحدهُمَا لِذَنْبِهِ بِالْقَدَرِ وَيُوَافِقُهُ الْآخَرُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ آدَمَ إلَى تَوْبَةٍ وَلَا أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمُوسَى هُوَ الْقَائِلُ: {رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وَهُوَ الْقَائِلُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَهُوَ الْقَائِلُ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وَهُوَ الْقَائِلُ لِقَوْمِهِ: {فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} فَلَوْ كَانَ الْمُذْنِبُ يُعْذَرُ بِالْقَدَرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا بَلْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ لَمَّا حَصَلَ مِنْ مُوسَى مَلَامٌ عَلَى مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَقَدَّرَهَا. وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ أَنْ يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَالْمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب وَالْجَاهِلُ الظَّالِمُ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى ذُنُوبِهِ وَسَيِّئَاتِهِ وَلَا يَعْذُرُ بِالْقَدَرِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ وَلَا يَذْكُرُ الْقَدَرَ عِنْدَ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَعَكْسُ الْقَضِيَّةِ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا عَمِلَ حَسَنَةً أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ يَسَّرَهَا وَتَفَضَّلَ بِهَا فَلَا يَجِبُ بِهَا وَلَا يُضِيفُهَا إلَى نَفْسِهِ كَأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهَا وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ بِفِعْلِ الْعِبَادِ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً مَقْضِيَّةً عَلَيْهِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُ سبحانه بَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَتِهِ وَهَذَا مَعْنَى قوله: {بِالْحَقِّ} وَقَدْ ذَمَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَعَبَثًا فَقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} وَقال: {أيحسب الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} وَقال: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فلابد مِنْ جَزَاءِ الْعِبَادِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ فَلِهَذَا قِيلَ: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}. وَلِلَّهِ سبحانه فِي كُلِّ مَا يَخْلُقُهُ حِكْمَةٌ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَهُوَ سبحانه أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ كُلَّ مَا صَنَعَ فَمَا وَقَعَ مِنْ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ وُجِدَ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ الْمَحْبُوبَةِ الْمَرْضِيَّةِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ وَهُوَ سبحانه مَحْمُودٌ عَلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ. وَهَذَا مَوْضُوعٌ عَظِيمٌ قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ النَّاسَ- فِي بَابِ خَلْقِ الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَلِمَ فَعَلَ ذَلِكَ- عَلَى طَرَفَيْنِ وَوَسَطٍ: فَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَصَدُوا تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا ظَنُّوهُ قَبِيحًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَظُلْمًا؛ فَأَنْكَرُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَا أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ بَلْ قالوا: يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ ثُمَّ إنَّهُمْ وَضَعُوا لِرَبِّهِمْ شَرِيعَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَحْرُمُ- بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَتَكَلَّمُوا فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيزِ بِهَذَا الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي شَبَّهُوا فِيهِ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَقَابَلَهُمْ الْجَهْمِيَّة الْغُلَاةُ فِي الْجَبْرِ فَأَنْكَرُوا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَقالوا: لَمْ يَخْلُقْ لِحِكْمَةِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِحِكْمَةِ وَلَيْسَ فِي القرآن (لَامُ كَيْ) لَا فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي أَمْرِهِ. وَزَعَمُوا أَنَّ قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} و{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وَقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وَقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}- وَأَمْثَالَ ذَلِكَ- إنَّمَا اللَّامُ فِيهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} وَقول الْقَائِلِ: لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ. وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ لَامَ الْعَاقِبَةِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِعَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِي مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ أَمْرُ مُوسَى أَوْ مِمَّنْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ رَدِّ عَاقِبَةِ فِعْلِهِ كَعَجْزِ بَنِي آدَمَ عَنْ دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْخَرَابِ عَنْ دِيَارِهِمْ فَأَمَّا مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَ: فَيَمْتَنِعُ فِي حَقِّهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْعِلْمِ أَوْ نَفْيَ الْقُدْرَةِ. وَأَنْكَرَ هَؤُلَاءِ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ لِبَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ دُونَ بَعْضٍ. وَقالوا الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا هُوَ مِنْ مَعْنَى الْإِرَادَةِ وَاَللَّهُ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ مُحِبٌّ لَهُ. وَزَعَمُوا أَنَّ مَا فِي القرآن مِنْ نَفْيِ حُبِّهِ وَرِضَاهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي كَقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} مَحْمُولٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ دِينًا يُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ. وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَّا إذَا وَقَعَ فَيُرِيدُهُ كَمَا يُرِيدُ حِينَئِذٍ مَا وَقَعَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قول أَهْلِ السُّنَّةِ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَقُلْهُ أحد مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ جَمِيعُ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَبَيْنَ الْإِرَادَةِ وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ اتَّبَعَ جَهْمًا فِي ذَلِكَ.
قال أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي: وَمِمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي إطْلَاقِهِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا فَصَارَ الْمُتَقَدِّمُونَ إلَى أَنَّهُ سبحانه لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَلَا يَرْضَاهُ وَكَذَلِكَ كَلُّ مَعْصِيَةٍ.
وقال شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ: الْمَحَبَّةُ هِيَ الْإِرَادَةُ نَفْسُهَا وَكَذَلِكَ الرِّضَا وَالِاصْطِفَاءُ وَهُوَ سبحانه يُرِيدُ الْكُفْرَ وَيَرْضَاهُ كُفْرًا قَبِيحًا مُعَاقِبًا عَلَيْهِ. وَهُوَ كَمَا قال أَبُو الْمَعَالِي فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّهُ سبحانه لَا يَرْضَى مَا نَهَى عَنْهُ وَلَا يُحِبُّهُ وَعَلَى ذَلِكَ قُدَمَاءُ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُدَمَائِهِمْ وَلَكِنَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْجَمِيعِ كَمَا قالهُ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قول لِجَهْمِ فَهُوَ الَّذِي قال فِي الْقَدَرِ بِالْجَبْرِ وَبِمَا يُخَالِفُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَنْكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى وَكَانَ يَخْرُجُ إلَى الْجَذْمَى فَيَقول: أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يَفْعَلُ هَذَا؟ فَنَفَى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَقَدْ قال الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِولدهَا». وَهَذِهِ مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْجُمَلِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقرأ كُتُبًا مُصَنَّفَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ فِي تَفْسِيرِ القرآن وَالْحَدِيثِ وَلَا يَجِدُ فِيهَا الْقول الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقول وَصَرِيحِ الْمَعْقول بَلْ يَجِدُ أَقْوَالًا كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ فَيَحَارُ مَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ إذْ لَمْ يَجِدْ فِي تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ الَّذِي قال اللَّهُ فِيهِ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.
فَصْلٌ:
وَإِذَا عُلِمَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مَعَ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ القرآن أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَكَذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن مَا وَجْهُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ ثَوَابُهَا بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ القرآن وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَمَا وَجْهُ قراءة سَائِرِ القرآن؟ فَيُقال: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحْسَنُهَا- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- الْجَوَابُ الْمَنْقول عَنْ الإمام أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ سُرَيْجٍ فَعَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ عَنْ مَعْنَى قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن» فَقال: مَعْنَاهُ أُنْزِلَ القرآن عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ثُلُثٌ مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَثُلُثٌ مِنْهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ مِنْهَا الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ. وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتْ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: بَدَأَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرَوَى قول ابْنِ سُرَيْجٍ هَذَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَاهِدٍ عَنْ الصَّابُونِيِّ وَالْبَيْهَقِي عَنْ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ قال: سَمِعْت أَبَا الْوَلِيدِ حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقول: سَأَلْت أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنَ سُرَيْجٍ قُلْت: مَا مَعْنَى قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن»؟ قال: إنَّ القرآن أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَثُلُثٌ أَحْكَامٌ وَثُلُثٌ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَثُلُثٌ أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ. وَقَدْ جُمِعَ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} أحد الْأَثْلَاثِ وَهُوَ الصِّفَاتُ فَقِيلَ إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن. الْوَجْهُ الثَّانِي- مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ- أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ هِيَ مَعْرِفَةُ ذَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةُ أَفْعَالِهِ فَهَذِهِ السُّورَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ إذْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وُجِدَ مِنْ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ. فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ وَلَا لَهُ مَثَلٌ.
قال أَبُو الْفَرَجِ: ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ.